top of page

جبور الدويهي: طبع في بيروت رواية عن خيبة الفرد

  • Writer: Ahmed Ellaithy
    Ahmed Ellaithy
  • Sep 15, 2016
  • 7 min read

رغم إصرار جبور الدويهي على ان روايته الأخيرة "طبع في بيروت" لا يهتم فيها بتأريخ أى فترة من عمر لبنان الكبير إلا أن القراءات التي صدرت عن الرواية، لا تزال تلح على أن التاريخ مبثوث بين ثناياها. وفي هذا الحوار، لا نطرح الأسئلة بما أنها استجوابات، وإنما تساؤلات حاولنا من خلالها مع الأستاذ جبور الدويهي أن نقدم قراءة أخرى.


الأستاذ جبور الدويهي من مواليد زغرتا، شمال لبنان عام 1949،وحصل على الإجازة في الادب الفرنسي من كلية التربية ف بيروت وعلى دكتوراة في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة، رشحت روايته "حي الأمريكان" لجائزة البوكر في دورتها الثامنة، كما وصلت روايته "شريد المنازل" للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.



يقول الكاتب الروائي الأمريكي ستيوارت أونان انه على الرغم من أن الكتاب هم من يخلقون القصة، لكن القارئ هو من يحمل الحياة لها؟

يختبر كتّاب الروايات هذه القراءات "النشيطة" لحكاياتهم وشخصياتهم عندما يأخذ النقّاد والقرّاء رواياتهم الى مناح ربما لم يدركوها تماماً خلال الكتابة. جميل تنوّع الانطباعات والمشاعر التي تثيرها الروايات ولعلّ في أبسط مثال أننا (أو أنا شخصياً على الأقل) نأخذ أمكنة الحكاية الى مواضع أليفة نعرفها وقد كتبت في أولى رواياتي، "اعتدال الخريف" حول تدجين الأمكنة الروائية: "الفرسان الثلاثة يتبارزون مع أخصامهم هنا في الشوارع الضيقة والقلعة التي سُجن فيها ادمون دانتيس (سجين زندا) لم تكن سوى منزل الشيخ فؤاد... أما اوريان دو غيرمانت (إحدى شخصيات مرسيل بروست) فتسكن في الطبقة الثانية من مدرسة الراهبات المزدانة بالقناطر...".


ونُقل عن غبريال غارسيا ماركيز مثلاً أنه رفض تحويل "مئة عام من العزلة" الى فيلم سينمائي تاركاً لكل قارئ أن يُعمل فيها خياله الخاص. وفي ظنّي أن الأدب السردي يشيع طالما يترك لمتصفّحيه هامش المساهمة هذا في "إحياء" الروايات وينضب عندما يحاول "استهلاك" شخصياته واستنفاد احتمالاتها من خلال النصّ وحده وكذلك إتمام المعنى والإقفال عليه ضمن دفتّي الكتاب، فالتلقّي وحوله نظريات كثيرة بات جزءاً من العمل الأدبي.


تصرخ روايتك ضد ضحالة الفكر، ففريد ابو شعر عرض ديوانه الذي يحوي "عصارة كيانه" على نحو من 20 دار نشر، لكنه في كل مرة يقابل بالاستخفاف والاستهزاء.

بالطبع عرضت في الفصل الأول من "طُبع في بيروت" للصعوبة التي يلقاها كاتب شاب مغمور في نشر كتابه في مدينة مثل بيروت فغمزت فيه من قناة ناشرين أصدقاء يواجهون مصاعب المهنة باعطاء إمكانيات التسويق الأولوية، لكني في سياق الرواية سعيت لإبراز طبيعة العلاقة بين المؤلف ومخطوطته، بين الكتابة، هذا "الشيء من الروح" وصاحبها، الكتابة "المطلقة" النهائية، لذا عنون فريد أبو شعر مؤلَّفه "الكتاب" فقط لا غير وأشهر انتسابه الى النفّري أو يوحنا فم الذهب. فالفكرة، إذا كان هناك من فكرة، التي راودتني خلال انجازي هذه الرواية هي ما يسيطر علينا من وهم حول أهمية ما نكتبه ومفعوله في الآخرين، أنه نوع من السخرية الذاتية. وفي تصميم الكاتب لكتابه ما يكفي من الإشارات لهذا المنحى الشرقي النبؤي: التقاء سبابة الله وسبابة الانسان في رسم "خلق آدم" لميكال انجيلو على الغلاف، صفحات بقياس كتب الكنائس، وحصانة تحمي صفحاته المغلقة المطويّة بعضها على بعض، فلا يدخل إليه قارئ حشريّ عابر صدفة... إنها بالنسبة لي مسألة الكتابة أكثر منها مسألة الكتاب. وفوق ذلك كله قد لا يكون هناك محتوى للكتاب، فمخطوطة فريد أبو شعر لن يقرأها أحد ولن يعرف القارئ محتواها، حتى الذي صفّ حروفها كان منشغلاً عن محتواها بزخرفة صناعتها ولم تسمع مقاطع منها سوى فتاة الملهى القادمة من إحدى دول أوروبا الشرقية والتي لا تعرف من العربية شيئاً. "الكتاب" او ال لا كتاب.


معظم شخصيات الرواية منكسرة، من فريد أبو شعر الذي فشل في نشر ديوانه، إلى عبدالله كرم الذي فشل في الحفاظ على مطبعة العائلة، لكن لم تنشغل الرواية يومًا بالفرد المجرد، بل بما هو كائن اجتماعي، ما تحاول ان تبرزه في الرواية هو تردي حال الواقع في كل مناحيه.

الانكسار، خيبة الفرد، فشله أو عزلته الأخيرة هي من السمات التي طبعت الرواية وأبطالها وصولاً الى أبطالها "المضادين" منذ نشأتها المعروفة الى اليوم أي من فارس الأوهام الأول دون كيشوت الى كولونيل الحرب والحبّ أوريليانو بونديا مروراً ببطلة فلوبير ايمّا بوفاري. وربما يكون هذا في أساس قيام النوع باعتباره ملحمة الفرد (بعد ملحمة الجماعة في أنواع أدبية أخرى) ومواجهته غير المتكافئة مع ما هو سائد اجتماعياً وثقافياً أو حتى في معاناته مع زوال الحب ومرور الزمن. وتنامي الفردية والفسحة الحقيقية او الافتراضية لكل مرتفق بوسائل التواصل الاجتماعي للتعبير كتابة أو حتى شفاهة عما يجول في خاطره ولنقل نتف من ذاكرته او حياته الراهنة في صيغة سرديات يومية صغيرة، يضاعف من وتيرة شيوع النوع السردي كأننا نتجه الى زمن يكون فيه لكلّ امرئ روايته والنساء يقبلن أفواجاً عليها.


لكن هزيمة الفرد لا تترافق بالضرورة مع هزيمة المجتمع وما تنتهي اليه أحداث رواية "طُبع في بيروت" يوحي بأن عالم الطباعة والأعمال التجارية في بيروت مستمر رغم الحريق الذي قضى على مطبعة آل كرم، والعلاقة الغريبة بين صاحب المطبعة وزوجته تستمر كذلك في غرابتها. وايضاً الشاعر المكسوف لا ينسحب بل يكمل السعي للترويج لكتابه ولو في الملهى الليلي لصديق مراهقته.


في روايتك، تدق ناقوس الخطر بشأن الكتاب المطبوع، هل يمكن أن نشهد انتشار الكتاب الالكتروني، وانحسار استخدام الكتاب المطبوع بكل حمولته الفنية والجمالية والتاريخية؟

بات شائعاً النعي المتكرر للكتاب والصحافة وسائر أشكال الكتابة والطباعة الورقية ونتبارى في إعلان أفول الكتاب أو في الاطمئنان لقدرته على المقاومة. مثل أبناء جيلي وحتى بعدهم، الأفكار والمذاهب والفلسفات والأشعار والروايات تتمظهر في كتب محددة صنعت تاريخاً ونعود اليها ولا يسعنا تخيّل إطار جديد للثقافة خارجها. لكننا في الوقت عينه نشهد على تفتح وانتشار منصّات جديدة قد لا يكون الكتاب الالكتروني إحداها بالضرورة ربما لأنه يرث من الحضارة "الورقية" فكرة الكتاب وكما كان لظهور الكتاب بشكله وحجمه المحددين تأثيره على الفكر والأدب وتطورهما سيكون للشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي أثرها في أشكال التعبير الجديدة. لا أحبّ التذّمر في هذا الموضوع واشعر اننا نشهد على تحوّل خرافيّ ليس بمقدورنا سوى اللحاق به. فلننتبه أنه خلال عقدين من الزمن بات من يكتب بيده وبالقلم من مخلفات الماضي ولي صديق مصري عزيز يمكنني التواصل معه يومياً بما هو متوفر من وسائل يصرّ أن يبعث لي برسالة مكتوبة بخطّ يده على عنواني البريدي في شمال لبنان فتمضي الرسالة أحياناً أكثر من شهر في رحلتها وعلى غلافها "الشكر لساعي البريد". كلّ يقاوم بما استطاع له سبيلاً.


هل كانت طباعة ديوان فريد أبو شعر من أجود أنواع الورق وأفضل الأغلفة هى اللحظة المثالية الوحيدة التي حصل عليها، وهل كانت هي اللحظة التي كانت ترد للكتاب بهائه؟

صحيح. في هذه الطبعة الوحيدة من ديوان فريد أبو شعر المشغولة باليد بخطّ الثلث النادر وبعناية وحرفة متوارثة داخل إحدى العائلات البيروتية والتي لم تعد موجودة في عالم الطباعة اليوم ما يشبه الاحتفاء النهائي، "موّال البجعة" الأخير إذا صحّ القول، والكتاب لم يحظ سوى بنسخة واحدة لم يتمكن صاحبها حتى من الاحتفاظ بها إذ صنعت بورق فاخر يستخدم لتزوير العملة ما جعلها غير قابلة للاستخدام. لا يمكن الإفلات من الرموز والمعاني في الكتابة الروائية ولو أن لحظة الصياغة السردية لا تُعنى بالضرورة بإنتاج المغزى المباشر الذي، كما اسلفنا، يحضر بفعل القراءة والقرّاء.


لطالما مثّلت بيروت بعائلاتها، وطوائفها، ومللها، نسيجًا حضاريًا، لكن هل تعتقد أن هناك اختلافات كبيرة تجعل من التعايش أمرًا صعبًا بين كل هؤلاء؟

لم أحاول يوماً في كتاباتي طرح رؤية لحلول تطال التنوّع اللبناني الذي طبع بتآلفه ونزاعاته الباردة والدامية في آن هذا الكيان منذ تأسيسه تحت مسمّى "لبنان الكبير" وقبل ذلك طوال القرن التاسع عشر. فلبنان مثال مفتوح على احتمالات دائمة ومتعارضة تنتجها طوائفه وجماعاته وحكّامه والتدخلات الإقليمية الحاضرة دائماً في شؤونه. ولا أخفي بأن هذا التعدد بتلاوينه الثقافية والدينية والاجتماعية يشكّل لوحة يسهل على الروائي ان يستوحي منها صفات غنيّة للأفراد وهوياتهم المتراكبة التي تكون عموماً مصدر غنى ومحلّ نزاع داخلي لدى الأفراد وبين الجماعات. وربما تكون روايتي "شريد المنازل" الأقرب بموضوعها الى ملامسة "التركيبة" اللبنانية من خلال بطل "ثنائي" الهوية الدينية لا يجد لنفسه مكاناً في النزاع الأهلي وقد حاولت تفادي الدروس والمواعظ وتركت الأحداث تشحن الرواية بمعانيها. فلبنان بلد ممكن ومتأرجح وقد يكون هذا التأرجح سبباً للانشداد اليه، وبيروت مختصره ومختبره قال فيها محمود درويش: "من مطر على البحر اكتشفنا الاسم، من طعم الخريف وبرتقال‏ القادمين من الجنوب، كأننا اسلافنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت"...‏


هل ترى أن الرواية يمكن أن تكون أداة للمعرفة تخاطب العقل والوجدان معًا كما يقول عبد الرحمن منيف؟

ما يلفتني في الروايات الواقعية أنها تمثّل مرجعيات تاريخية تنقل ما يستحيل على التأريخ التقليدي أو على الكتابة الصحافية التعبير عنه لأن الرواية تمزج المعيوش الفردي والجماعاتي بالصيرورة العامة التي يعنى بها وحدها التاريخ وهذا جانب معرفيّ كبير وممتع لا مثيل له. فأزعم مثلاً أن الرواية اللبنانية هي خير مصوّر للحرب الأهلية التي عصفت بهذا البلد وقد انتبه بعض الأساتذة الى هذا المنحى فأدخلوا الرواية في مقررات التاريخ الحديث الجامعية. وهناك روايات يكون المنحى الفكري فيها طاغياً فتنافس بذلك أنواعاً أدبية أو كتابية أخرى وهذا نوع لا أرتاح له كثيراً مفضلاً نسيج الحكايات وحضور الشخصيات بأسرارها ونزعاتها الانسانية المفتوحة الأفاق أمام القارئ، وربما يكون هذا ما قصده عبد الرحمن منيف بمخاطبة الوجدان.


يقول بول فراى، مدرس النظرية الأدبية في جامعة ييل الأمريكية، أن الرواية هى الكتاب المقدس لهذا العصر، ما رأيك؟

لا جدال في طغيان الرواية اليوم وسقوط جميع التوقعات بنهايتها فهي تزدهر ويشهد عالمنا العربي اليوم على انتشار غير مسبوق للكتابة الروائية ولا تعرف نضوباً أو حتى تراجعاً في البلدان التي انتجتها قبل قرون من الزمن، لا بل ان الثقافات الصاعدة او "الطرفية" قياساً على النموذج الغربي التحقت بحمّى الرواية، من أميركا اللاتينية الى الشرق الأقصى مروراً بافريقيا والعالم العربي. والرواية نوع مفتوح على البوح الحميم والسرد الملحمي والغوص في أسرار الجريمة والتاريخ والخيال العلمي والسياسي تغتني من اللهجات المحلية ومحمولها التخييلي فيتصالح فيها الأدبي والشعبي وتغتني اللغة.


ابتعدت عن كتابة القصص القصيرة منذ "الموت بين الأهل نعاس"، هل يرجع ذلك لرواج الرواية وانتشارها عن القصة القصيرة؟

بدأت بكتابة حكايات قصيرة من أجواء ومناخات محلية أعرفها وأعرف طرق سردها والتعريف بشخصياتها. تطّور الأمر مع الكتاب الثاني بسبب شهيّة مستفيضة فكتبت ما يشبه "المفكرة الذاتية" في صيغة روائية لانتقل بعدها، ومن دون اعتبار، حقيقة، لما هو شائع بل من نزعة طبيعية ومن كوني أمضيت زمناً طويلاً في تدريس الرواية وتقنيات السرد في الجامعة اللبنانية، الى تركيب عوالم خيالية مستوحاة من وقائع أليفة فجاءت رواياتي منغرسة في الأمكنة التي أعرفها.


هل يكتب الكاتب بحثًا عن يقين ما، يحاول بالكتابة البحث عن اجابات لأسئلته؟

أعتذر عن القول ان لا هذا ولا ذاك في ما يخصّني على الأقل. إنها قبل كل شيء متعة التأليف، هذا التحفيز الدائم الذي لا ينقطع حتى الفراغ من الرواية. إنها معجزة الكتابة مع ما تتطلبه من مثابرة منهجية وإصرار ومراجعة وتجريب، وفي روايتي الأخيرة أتوقّف عند انخطاف الكاتب ومتعته في وصف مستوحى من يومياتي: "أفرغ جلّ ما عنده كأنه بلّغ واستراح فبدأ يراجع ما أنجزه، يقرأ عالياً كي يضبط إيقاع الجمل، يوزّع ارتفاعها وسقوطها، يتردّد طويلاً أمام نعتَين متتاليين، يسمح لنفسه بافتتاح بعض الجمل بالفاعل بدل الفعل ويركّب جملاً اسمية وباعتماد عبارات من كلمة واحدة قبل أن يعيد الخاتمة ويعيد حتى يصل إلى إيقاع يطربه". هذا ما يغويني في الكتابة الروائية، انها ايضاً العمل الفنّي في مواجهة مرور الزمن والموت.


نحن نعيش في عصر الجوائز الأدبية، الأمر الذي يجعلني أتساءل، ماذا تمثل الجوائز بالنسبة لك؟

إنها جزء من أدوات التسويق والتعريف بالكتب (كالمكتبات والصحافة والمعارض والنقد) لا يجب ان تعطى أهمية لم تكتسبها في البلدان الأعرق منّا بهذه الممارسات. فالجائزة التي يمكن ان ترفع بعض الشيء رقم المبيعات، لا تصنع الأدب بل تواكبه والمعروف ان كتباً نالت جوائز ثم طواها النسيان والعكس صحيح كذلك. بالطبع انها ترضية جميلة ومحفّزة للمؤلفين تساهم في تعريف الجمهور بالكتاب ووضعه تحت مجهر القراءة والنقد وعلينا أن ندرك ان لجان التحكيم خاضعة لذائقة ذاتية لا مفرّ منها ولاعتبارات ولو غير مفروضة بالتوزّع الجغرافي والجندرة وكذلك لمناخات آنية.


تشرف على ورشة "آفاق" للكتاب الشباب، وأعلنت قبل ذلك أن هناك شبابًا كثيرين يمكنهم أن يكونوا روائيون جيدون، لكن ما الذي ينقص الكتاب الشباب عمومًا؟

رافقت على مدى دورتين مجموعة من الكتّاب الشباب الوافدين من مختلف البلدان العربية وحاولت ان اتبادل معهم إشكاليات الكتابة ومسالكها وبناء الشخصيات والأساليب الوصفية والسردية وإنتاج المعنى.

تعلّمت الكثير من هذا التنوّع والإصرار على الكتابة التي تستحضر حكايات من كل العالم العربي، من جنوب السودان الى اليمن، الى القاهرة أو بيروت أو المنفى الفلسطيني. ولمست رغبة تجريبية يجب تأكيدها وضرورة لامتلاك لغات أجنبية والحاجة للاطلاع على ما يصنعه الآخرون بهذا النوع الأدبي الذي نقبل عليه بنهم ولو متأخرين.

 
 
 

Comentarios


© 2023 by EDX. Proudly created with Wix.com

bottom of page