top of page
Search

"أحب صورك لأنها جميلة".. أورهان باموق

  • أورهان باموق
  • Nov 6, 2018
  • 5 min read

أروهان باموق يتذكر صديقه آرا جولير، المصور الكبير، الذي التقط صوراً عدة لاسطنبول، ولناسها


أروهان باموق

ترجمة: أحمد ليثي


كان آرا جولير، الذي توفي في 17 أكتوبر الماضي،أعظم مصور لاسطنبول الحديثة. وُلد عام 1928 لأسرة أرمينية في اسطنبول. وشرع في التقاط صور للمدينة عام 1950، صورت حياة الناس بجانب العمارة العثمانية الضخمة، ومساجدها الساحرة، ونوافيرها المذهلة. أما أنا فقد ولدت بعدما بدأ عمله بعامين، في 1952، وعشت في الحي نفسه الذي عاش فيه. وهكذا، صارت إسطنبول التي تخص آرا جولير، هي اسطنبول التي تخصني أيضاً.


سمعت عن آرا لأول مرة عام 1960، حينما رأيت بعض الصور الفوتوغرافية في جريدة "حياة" الأسبوعية واسعة الانتشار، وهي مجلة ثرثرة، ولديها اهتمام كبير بالتصوير. كان أحد أعمامي يحررها. ونشر آرا بها بعض البورتريهات لكتاب وفنانين، كبيكاسو وسلفادور دالي، والشخصيات الأدبية والثقافية المشهورة للجيل الأقدم في تركيا، كالروائي أحمد حمدي طابينار. والحق أني سعدت عندما أدركت أني صرت كاتباً، بعدما التقط لي آرا صورة لي للمرة الأولى بعد نجاح كتابي "الكتاب الأسود".


تفانى آرا في التقاط الصور لاسطنبول على مدى أكثر من نصف قرن، استمرت حتى مطلع الألفينات. وقد عكفت بلهفة على دراسة كل صوره، لأرى فيهم تطور وتحول المدينة ذاتها. أما صداقتي بآرا، فقد بدأت عام 2003، عندما كنت أستشيره بخصوص الأرشيف الخاص به، ذلك أني كنت أجري بعض الأبحاث التي تخص كتابي "اسطنبول"، وكان هو قد حوّل بيت كبير من ثلاثة طوابق ورثه عن والده، صيدلي من جالاتا سراي، يعيش في منطقة بايوغلو إلى ورشة، ومكتب، وأرشيف.


الصور التي أردتها لكتابي لم تكن تلك الشهيرة التي كان جولير يلتقطها، ويعرفها الجميع، لكني أردت صور أكثر تناغماً مع سوداوية اسطنبول التي كنت أصفها، مع الجو العام الرمادي لطفولتي. وكان لدى آرا صور أكثر مما كنت أتوقع. كان يمقت صور اسطنبول السياحية، والعقيمة، والمطهرة. وبعدما اكتشف أين تكمن اهتماماتي بالضبط، سمح لي بالوصول إلى مكان في الأرشيف الخاص به دون أية عوائق.


ومن خلال تقرير التصوير الفوتوغرافي لآرا، الذي ظهر في الجرائد في بداية خمسينيات القرن المنصرم،شاهدت لأول مرة اسطنبول "غير المعروفة"، فقد كان التقرير يمتلأ ببورتريهات لفقراء، وعاطلين عن العمل، وقادمين جدد من الريف.




يقظة آرا لسكان اسطنبول في الشوارع الخلفية، هي دليل على كيف كان دائماً ما يعبّر عن ارتباطه بالمدينة من خلال الناس الذين يعيشون فيها. صيادون يجلسون على المقاهي يرتقون شباكهم، رجال عاطلون يثملون في البارات، وأطفال يرقعون إطارات السيارات تظللهم جدران المدينة المنهارة. أطقم البناء، عمال السكة الحديد، مراكبي يسحب مجدافيه ليحمل أشخاصاً من أحد شواطيء القرن الذهبي إلى آخر، وبائعو الفاكهة وهم يجرون عرباتهم، وانتظار الناس عند الفجر لفتح جسر جالاطة، وسائقو الحافلات الصغيرة في الصباح الباكر.


الأمر بدا كما لو كانت صور آرا تقول لنا: "نعم، ليس ثمة نهاية لمناظر مدينة اسطنبول، لكن، الفرد أولاً"، الحال أن السمة المحددة والمميزة لصور آرا، هو ذلك الارتباط العاطفي الذي يلتقطه بين مناظر المدينة، وبين الفرد. صوره جعلتني أكتشف أيضاً كيف أن شعب اسطنبول أكثر هشاشة وفقراً عندما يظهر بجانب العمارة العثمانية الضخمة، ومساجدها الساحرة، ونوافيرها المذهلة.




كان يقول لي بانزعاج غريب: "إنك تحب صوري فقط لأنها تذكرك باسطنبول التي قضيت فيها طفولتك".


"لا"، أقول، "أحب صورك لأنها جميلة".


لكن، هل الذاكرة والجمال شيئان مختلفان؟ ألا تعد الأشياء جميلة، فقط لأنها مألوفة قليلاً وتشبه ذكرياتنا؟ لطالما استمتعت بمناقشة هذا السؤال معه؟


كنت أتساءل في كثير من الأحيان بينما أعمل في أرشيف اسطنبول للصور، ما الذي يغويني لهذه الدرجة في تلك الصور . وهل هذه الصور مغوية لآخرين؟ ثمة شيء مذهل في النظر إلى صور المهمشين، ولا تزال تلك التفاصية حية في المدينة التي قضيت فيها حياتي، العربات والباعة المتجولون في الشوارع، ضباط المرور، العمال، النساء في أوشحتهم يعبرون الجسور التي يلفها الضباب، ومحطات الحافلات القديمة، وظلال أشجار المدينة، والجرافيتي على حوائطها.


لهؤلاء الذين قضوا 65 عاماً في نفس المدينة مثلي، وفي بعض الأحيان دون أن يتركوها لسنوات، تتحول المناظر الطبيعية للمدينة في النهاية إلى مؤشر لحياتك العاطفية. شارع يمكن أن يذكرك بألم طردك من وظيفة ما، ورؤية جسر معين قد تعيد إلى ذاكرتك ذكريات وحدة شبابك. وميدان في المدينة يمكن أن يستدعي نعيم قصة حب كنت عشت فيها من قبل، وزقاق مظلم يمكن أن يكون تذكيراً بمخاوفنا السياسية، ومقهى قديم يمكن أن يثير ذكري اعتقال أحد أصدقائك، وشجر الجميز الذي يذكرك كيف تعودنا أن نكون فقراء.


في الأيام الأولى من صداقتنا، لم نتحدث أبداً عن تراث آرا الأرمني، أو عن التاريخ المؤلم والقمعي، لتدمير الأرمن العثمانيين، وهو موضوع لا يزال تابو حقيقي في تركيا، شعرت أنه سيكون من الصعب أن أتحدث عن ذلك الموضوع المروع معه، ذلك أنه يمكن أن يضع الضغط على علاقتنا، والحال أنه كان يعلم أن التحدث عن ذلك الموضوع سيجعله من الصعب أن يحيا في تركيا.


مع مرور السنوات، وثق آرا بي، وكان من حين لآخر يثير معي بعض الموضوعات السياسية، التي لم يكن بوسعه أن يثيرها مع الآخرين. قال لي، يوم ما، أنه في عام 1941، ولتجنب الضريبة الباهظة التي فرضتها الحكومة التركية على الثروة، على المواطنين غير المسلمين خاصة، وليتجنب الترحيل القسري لمعسكرات العمل، ترك أبيه الصيدلي بيتهم في جالاتا سراي، واختفى لعدة أشهر في بيت آخر، ولم يخاطر مرة واحدة بالخروج منه.


تحدث إلى مرة أخرى، عن ليلة 6 سبتمبر 1955، عندما توترت العلاقة بين تركيا واليونان، بسبب الأحداث التي شهدتها قبرص، حشدت الحكومة التركية بعض العصابات، لتجوب شوارع المدينة، وتنهب المحلات المملوكة لليونانيين والأرمن واليهود، ودنست الكنائس والمعابد، وتحول شارع الاستقلال، وهو الشارع المركزي في بايوغلو إلى منطقة حرب.


كانت العائلات اليونانية والأرمنية هي من تدير معظم محلات شارع الاستقلال. وفي خمسينيات القرن الماضي، كنت أزور محلاتهم برفقة أمي. يتحدثون التركية بلكنة. وعندما أعود أنا وأمي إلى البيت،تعودت أن أقلد لهجتهم في الكلام بالتركية. لكن بعد التطهير العرقي الذي حدث عام 1955، الذي كان الغرض منه تخويف الأقليات غير المسلمة في المدينة، ترك العديد منهم شارع الاستقلال، ومنازلهم في اسطنبول، وبحلول منتصف الستينيات، لم يتبق منهم أحد.


كنت أنا وآرا، نتحدث في بعض التفاصيل التي جعلته يتجه إلى تصوير هذه الصور، وبعض الأحداث المشابهة. لكننا لم نأت بعد على ذكر التدمير الذي حدث للأرمن العثمانيين، ومنهم جد آرا وجدته.


في 2005، أجريت حواراً، أثرت فيه قضية عدم وجود حرية اعتقاد في تركيا، وإننا لا نزال غير قادرين على التحدث عن بعض الأحداث المؤسفة والفظيعة التي حدثت للأرمن العثمانيين منذ 90 سنة. لكن الصحافة القومية أبرزت آرائي وبالغت فيها، واقتدت إلى المحكمة في اسطنبول بتهمة إهانة القومية التركية، التهمة التي يمكن أن تقودك إلى السجن لثلاث سنوات.


بعدها بعامين، أُطلق النار على صديقي الصحفي الأرمني هرانت دينك، وأردي قتيلاً في اسطنبول، في وسط الشارع لاستخدامه كلمات "المذبحة الأرمنية". ثم شرعت صحف محددة تلمح إلى أني ربما أكون التالي. وبسبب بعض التهديدات التي كنت أتلقاها، والاتهامات التي كانت تلاحقني، والحملة الشرسة من الصحافة القومية عليّ، بدأت في قضاء وقت أكثر في الخارج، في نيويورك. وعدت إلى مكتبي في اسطنبول للإقامات القصيرة، من دون أن أخبر أحداً أني قد عدت.


في واحدة من زياراتي القصيرة لوطني عائداً من نيويورك، وخلال أكثر الأيام عتمة بعد اغتيال هرانت دينك. حينما دخلت إلى مكتبي رن جرس الهاتف فوراً. في تلك الأيام لم أكن أرفع سماعة هاتف المكتب أبداً. كان الرنين يتوقف من حين لآخر، لكن الهاتف يبدأ مرة أخرى في الرنين، وهكذا مراراً وتكراراً. وبصعوبة، رفعت سماعة الهاتف أخيراً، وعلى الفور، تبينت صوت آرا. "أوه، لقد عدت، أنا في طريقي إليك الآن"، قال وأغلق الخط دون أن ينتظر مني جواباً.


وبعد خمس عشرة دقيقة، دخل آرا إلى مكتبة، كان يلهث، ويلعن كل شيء وكل شخص بطريقته المميزه. ثم احتضنني ببنيته الضخمة وبدأ في البكاء. هؤلاء الذين يعرفون كيف كان آرا مولعاً بالشتائم والعبارات الذكورية القوية، سيدركون دهشتي وأنا أراه يبكي هكذا، لكنه استمر في شتم ولعن كل الأشخاص، بينما يخبرني "ليس بوسعهم لمسك، هؤلاء الناس".


لم تكن دموعه تتباطأ. وكلما كانت دموعه تزداد، كان يسيطر عليَ إحساس غريب بالذنب والعجز. وبعدما بكى لفترة طويلة جداً، هدأ آرا أخيراً، وبعد ذلك، وكما لو كان بكائه هو الغرض الوحيدة من الزيارة كلها، شرب كوب من الماء، وغادر.


تلاقينا بعض المرات بعد ذلك. واستأنفت عملي الهاديء على الأرشيف الخاص به كما لو أن شيئاً لم يحدث. ولم يعد لدي الإلحاح بسؤاله عن جده وجدته. المصور العظيم، كان قد أخبرني بكل شيء من خلال دموعه.

آرا كان يأمل بالديمقراطية، حيث يمكن للأفراد أن يتحدثوا بحرية عن أجدادهم المعذبين، أو على الأقل أن يبكي بحرية عليهم. لكن تركيا لم تصل أبداً لهذه الدرجة من الديمقراطية. ونجاح السنوات الخمس عشرة السابقة، فترة النمو الاقتصادي كانت بُنيت من خلال الأموال المقترضة، والتي اُستخدمت ليس لتوسيع أفق الديمقراطية، لكن لتقييد الحرية بشكل لم يحدث في تركيا من قبل. وبعد كل ذلك النمو، وكل ما شهدناه من بناء، باتت اسطنبول التي تخص آرا جولير – ولنستعمل عنوان أحد كتبه – اسطنبول الضائعة.


© 2023 by EDX. Proudly created with Wix.com

bottom of page