"خضوع".. تناظرات مشوهة فى ديستوبيا فرنسية
- Ahmed Ellaithy
- Sep 19, 2015
- 4 min read

بمناسبة صدور طبعتها العربية
ترجمة: احمد ليثى
حتى الأكثر سخرية من بيننا، أو صاحب الأفق المروع، أو الكاتب ميشيل ويلبك نفسه لو كان على رأس القائمة، لم يكن ليتجرأ على تخيل وقوع الحدث الكارثى الذى رافق إطلاق تلك الرواية. ببساطة، من المستحيل بينما تقرأ رواية خضوع، عمل ويلبك الأخير، إلا أن تتذكر الهجمة الإرهابية التى تمت على مكتب مجلة "تشارلى إيبدو" بباريس، فى السابع من يناير من العام الحالى، وهو اليوم نفسه الذى أُطلقت فيه الرواية، قُتل 12، وجُرح نحو 11 رجلًا. رحل ويلبك عن باريس فى الحال، وقطع جولته الدعائية للرواية، وللحظة، أصبح كل ما يحدث أبعد ما يكون عن الحقيقة. لكننا كنا "فى الحقيقة" كما يقول الراوى الذى استخدمه ويلبك.
بينما كانت الطلقات تتكرر والأجسام تسقط فى العاصمة، وبعد ذلك بأيام فى متجر شهير، أجرى النقاد الفرنسيون المناظرات المعتادة، وكانوا يثنون على رواية ويلبك الجديدة، لكن هل هو كاتب ثانوى، أم أنه كاتب من الصف الثانى، أم أنه روائى عظيم؟. يمكن أن نقول أن تأثيره، وبصمته على الثقافة الفرنسية لا يمكن ضحدها. ذلك أن الطبعة الألمانية من الرواية نُشرت كما كان مقررًا، فى أواخر يناير الماضى، ونشرها بالترجمة الإنجليزية بالأسم نفسه الناشر البريطانى "ويليام هاينمان" الذى حصل على حقوق ترجمة الرواية من "فلامريون" الفرنسية، ونُشرت فى سبتمبر الماضى كما كان مخططًا لها، ونُقلت إلى الولايات المتحدة فى نوفمبر الماضى، الآن صار على العالم الناطق بالإنجليزية أن يدلى بقوله.
لذلك، علينا أن نبدأ بالقصة التى احتوتها تلك الرواية المثيرة. نحن الآن فى مايو 2022، الشهر المقدس للانتخابات الرئاسية الفرنسية، حيث أكمل "فرانسوا هولاند" فترة إدارته الثانية (فى عالم ويلبك، أعلن ساركوزى اعتزاله السياسة بعد هزيمته فى انتخابات 2017). دخل الحزب اليسارى فى تحالف مع الحزب اليمينى الوسطى، ليعلنوا موت السياسة التقليدية، فى جولة ثانية للإعادة بين الحزب اليمينى الذى تقوده "مارى لو بان" وهو حزب فى أقصى اليمين، أمام حزب متخيل هو " الإخاء الإسلامى" الذى يقوده "محمد بن عباس"، الذى أسبغ عليه ويلبك نفس روح ومبادىء الإخوان المسلمون، الذين بدورهم، يتبنون نفس قيم ومبادىء الجمهورية الفرنسية (الحرية – الإخاء – المساواة)، ونتيجة لتلك الانتهازية، والإعلان عن القيم المشتركة بين الحزب والجمهورية، ولدهاء بن عباس الميكافيللى، ودعم التحالف الحزبى اليسارى واليمينى الوسطى لبن عباس أمام لو بان، هزم بن عباس لو بان فى انتخابات 2022.
صعد بن عباس إلى سدة الرئاسة، الآن كل شىء سيكون على مايرام تحت الحكم الإسلامى الذى سيعم فرنسا، ستنحسر البطالة، وسيتتسلم أساتذة الجامعات مرتباتهم شهريًا، تقريبًا سيكون بسبب قيم الاستثمارات البنكية، وسيختفى العنف الذى يمارس فى الليل بالضواحى، لكن، هناك ثمن يجب على الجميع أن يدفعه مقابل ذلك، وهكذا، لزمت النساء منازلهن، وتحول أساتذة الجامعات إلى الإسلام، ومن لم يتحول أُجبر على التقاعد المبكر، وبالطبع تلاشت دولة الرفاة الفرنسية، وفى تلك الأثناء، دخلت ليبيا فى مفاوضات لتكون العضو الجديد فى الإتحاد الأوروبى.
دائمًا ما كان ويلبك روائى خارج عن المألوف والمتوقع، ومنذ أولى رواياته كان يلعب لعبًا كلاسيكيًا على المراوغات، بين ما قيل، وبين معنى ما قيل، بين ما تركناه ورائنا، وبين ما نعتقد أننا لازلنا فى احتياج اليه، فى روايته الأخيرة "الجسيمات الأولية" عاد إلى تلك الآلية، بين ما نعتقد أنه رغبتنا، وبين ما نريده فعلًا، أقحم ويلبط سخريته بين اختياراتنا السياسية والدينية، والتزامنا الظاهرى بالديمقراطية العلمانية. لكن الجانب المقلق فى ذلك العمل، هو أنه يجد متعة شريرة، عندما يقول أنه لا يعول على أن الأدب سيشكل أى فارق فى حياة الناس.
الرواى فرانسوا، يعمل أستاذًا فى جامعة باريس، وواحدًا من الشخصيات الخيالية فى رواية مليئة بالشخصيات الواقعية. وهو خبيرًا فى أعمال الروائى الفرنسى الواقعى "یوریس کارل هویسمانس" (1848 – 1907) الذى أًشتهر بعمله الفاتن "إلى الوراء"، وترجمت الرواية إلى الإنجليزية بالإسم نفسه، كما ترجمت أيضًأ بـ "ضد الطبيعة"، ويعتبرها فرانسوا، قمة الابداع الذى وصل إليه هويسمانس.
بيت ويلبك الروائى هو فى الحقيقة بيت من المرايا، ذلك أن هناك عدد لا نهائى من التناظرات بين رواية ويلبك وبين العالم الواقعى، بين الحياة التى يعيشها الراوى، وبين رواية هويسمان المذكورة، وأخيرًا بين حياة ويلبك وبين حياة هويسمان نفسه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يفترض ويلبك أطروحة أن رواية هويسمان لم تضع نهاية لمذهبه الطبيعى، على أن هويسمان كان من أنصار المذهب الطبيعى حتى آخر يوم فى حياته، يجادل فرانسوا بأن آخر حوارات هويسمان عن المسيحية، لا يجب أن نعتبرها هى الخاتمة، لكنها فى الحقيقة، النقطة المفتاحية لحياته وأدبه، وتبعًا لهذا فإن روايته تلك يجب أن تٌقرأ "إلى الوراء".
لذا، وبإلهام من هويسمانس، انطلق الرواى فى رحلة بحث عن رجال دين خبراء فى الديانة المسيحية، وليبدأ رحلته، سافر فرانسوا مسافة 200 كم تجاه مدينة "مارتيل" (تلك المدينة التى يوجد بها الأطفال الذين علمهم ويلبك ذات يوم)، هزم "شارل مارتيل" التقدم الاسلامى فى القرن الثامن الميلادى. لكن مغامرات فرانسوا قادته إلى أن "مارتيل" لم تكن هى آخر مدينة صدت الزحف الإسلامى لأوروبا، عثر فرانسوا على زميل سابق له كان دائمًا ما يمدح غزو الإسلام لاوروبا، وسافر إلى الحج من مدينة "روكامادور" الفرنسية، فى السعى وراء النشوة الدينية المفقودة التى لم يرتق إليها قط، لكنه وجد بلده يهوى فجأة فى الفراغ، عائدًا إلى قرون سابقة كانت قد ولت.
يبدو أن ويلبك قد وجد إجابة نموذجية فى أعمال المثقف الفرنسى البارز، والفيلسوف المعاصر "مارسيل جوشيه"، وفى كلمات قليلة، جادل جوشية أنه خلال الألفية السابقة، كانت المسيحية تتحول بططء لكن بتمكن نحو حكم علمانى بمسحة روحية للمحافظة على المجتمع البشرى. العملية بدأت بالانقلابات الجورجية التى حدثت فى القرن 11، والتى وضعت تمييزات صارمة بين الأشياء الزمانية والمجالات السماوية، تمميز بين الدولة والكنيسة، لكن كانت الكنيسة رغم ذلك، هى الوسيط المحتمل بين الله والانسان.
كل شىء سار طبيعيًا لأربعة قرون ونصف حتى الانقلاب الذى تحدى قدرة روما على التميير بين العالم السماوى وبين عالمنا، واستمرت الحكاية مع التنوير والثورة الفرنسية التى لحقته، الأمر الذى جعل الناس تصر على استبدال الاله السماوى بطرق محددة لحكم علمانى، وبحلول القرن 19 هُزمت الترانسدنتالية وحلت محلها النظام العلمانى لدولة ذات سيادة، لكن للأسف تراجع هذا النظام العلمانى بحلول القرن العشرين، وحل محله نظام علمانى ذا قوة باطشة، كانت الفاشية والستالينية الشيوعية أساسه. هذه الشموليه، يمكن أن تزدهر، وفقًأ لجوشيه، بفضل نوع جديد من التعصب العلمانى الذى استدعى أن تكون الالتزامات الدينية تقاليد بالية من قرون سابقة.
لكن الآن، فى عصرنا ما بعد الشمولى، يبدو أن سطوع الاتحاد الأوروبى، والعولمة، قد حددا الخروج النهائى للدين من أوروبا، فى أشكالها الترانسدنتالية والعلمانية. يجادل جوشية – ويبدو أن ويلبك يوافقه فى هذا – أن الأزمة الحالية للديمقراطية الليبرالية، هى أننا نواجه النتيجة المنطقية والطبيعية، للحياة الديمقراطية.